ظهور البدع في حياة المسلمين و الأسباب التي أدت إليها *
1- ظهور البدع في حياة المسلمين , و تحته مسألتان :
المسألة الأولى : وقت ظهور البدع :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : في مجموع الفتاوى (354/10)[ و اعلم أن عامة البدع المتعلقة بالعلوم و العبادات إنما وقع في الأمة في أوخار عهد الخلفاء الراشدين كما أخبر به النبي - صلى الله عليه و سلم - حيث قال : (( من يعش منكم , سيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين المهديين ))(1)]
و أول بدعة ظهرت : بدعة القدر , و بدعة الارجاء و بدعة التشيع و الخوارج , و لما حدثت الفرقة بعد مقتل عثمان - رضي الله عنه - ظهرت بدعة الحرورية , ثم في أواخر عصر الصحابة , حدثت القدرية في آخر عصر ابن عمر و ابن عباس و جابر و أمثالهم من الصحابة - رضي الله عنهم - و حدثت المرجئة قريباً من ذلك , و أما الجهمية فإنما حدثوا في أواخر عصر التابعين بعد موت عمر بن عبد العزيز و قد روي أنه أنذر بهم و كان ظهور جهم بخراسان في خلافة هشام بن عبد الملك
هذه البدع ظهرت في القرن الثاني و الصحابة موجودون و قد أنكروا على أهلها ثم ظهرت بدعة الاعتزال و حدثت الفتن بين المسلمين و ظهر اختلاف الآراء و الميل الى البدع و الاهواء و ظهرت بدعة التصوف و بدعة البناء على القبور و بعد القرون المفضلة و هكذا كلما تأخر الوقت زادت البدع و تنوعت .
المسألة الثانية : مكان ظهور البدع :
تختلف البلدان الإسلامية في ظهور البدع فيها .
قال شيخ الاسلام ابن تيمية : (( فإن الامصار الكبار التي سكنها أصحاب رسول الله -صلى الله عليه و سلم - و خرج منها العلم و العلماء خمسة : الحَرَمَان , و العراقان , و الشام , و منها خرج القرآن و الحديث , و الفقه و العبادة , و ما يتبع ذلك من أمور الاسلام , و خرج من هذه الأمصار بدع أصولية , غير المدينة النبوية , و الكوفة خرج منها التشيع و الارجاء و انتشر بعد ذلك في غيرها , و البصرة خرج منها القدر و الاعتزال و النسك الفاسد , و انتشر بعد ذلك في غيرها و الشام كان بها النصب و القدر , و أما التهجم فإنما ظهر في ناحية خراسان , و هو شر البدعو كان ظهور البدع بحسب البعد عن الدار النبوية ’ فلما حدثت الفرقة بعد مقتل عثمان ظهرت بدعة الحرورية و أما المدينة النبوية فكانت سليمة من ظهور هذه البدع و ان كان بها مضمر لذلك فكان عندهم مهاناً مذموماً , إذا كان بها قوم من القدرية و غيرهم و لكن كانوا مقهورين ذليلين بخلاف التشيع و الارجاء في الكوفة و الاعتزال و بدع النساك بالبصرة , و النصب بالشام , فإنه ظاهراً , و قد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه و سلم - أن الدجال لا يدخلها , ولم يزل العلم و الايمان ظاهراً إلى زمن أصحاب مالك , و هم من أهل القرن الرابع )) [ مجموع الفتاوى 300-303/20]
2- الأسباب التي أدت إلى ظهور البدع :
مما لا شك فيه أن الاعتصام بالكتاب و السنة فيه منجاة من الوقوع في البدع و الضلال قال تعالى
(وَأَنَّ هَـٰذَا صِرٰطِي مُسْتَقِيمًا فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذٰلِكُمْ وَصَّـٰكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )[الأنعام:153] و قد وضح ذلك النبي - صلى الله عليه و سلم - فيما رواه ابن مسعود - رضي الله عنه - قال :خطَّ لنا رسول الله - صلى الله عليه و سلم - خطاً فقال (( هذا سبيل الله )) ثم خطَّ خطوطاً عن يمينه و عن شماله ثم قال ( و هذه سُبُلٌ , على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه )) , قلم تلا (وَأَنَّ هَـٰذَا صِرٰطِي مُسْتَقِيمًا فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذٰلِكُمْ وَصَّـٰكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )[الأنعام:153] ( رواه احمد و ابن حبان و الحاكم و غيرهم )
فمن أعرض عن الكتاب و السنة , تنازعته الطرق المضللة و البدع المحدثة
فالأسباب التي أدَّت الى ظهور البدع تتخلص في الأمور التالية :
الجهل باحكام الدين , واتباع الهوى , التعصب للآراء و الأشخاص , التشبه بالكفار و تقليدهم , و نتناول هذه الأسباب بشيء من التفصيل :
1- الجهل بأحكام الدين :
كلما امتد الزمن و بعد النار عن آثار الرسالة , قل العلم وفشا الجهل , كما أخبر بذلك النبي - صلى الله عليه و سلم - بقوله : (( من يعش منكم , سيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين المهديين )) و قوله : (( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد و لكن يقبض بقبض العلماء حتى اذا لم يُبْق عالماً اتخذ النار رؤوساً جُهالاً , فسئلوا فأفتوابغير علم فضلوا و أضلوا )) [ متفق عليه ]
فلا يُقاوم البدع الا العلم و العلماء فاذا فُقد العلم و العلماء اتيحت الفرصة للبدع أن تظهر و تنتشر , ولأهلها أن ينشطوا .
2- اتباع الهوى :
من أعرض عن الكتابو ا لنسة اتبع هواه كما قال تعالى {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[القصص:50].
و قال تعالى :{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [ الجاثية :23 ]
3- التعصب للآراء و الرجال :
التعصب للآراء و الرجال يحول بين المرأ و اتّباع الدليل و معرفة الحق قال تعالى : ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ )) [ البقرة :170]
و هذا هو الشأن في المتعصبين اليوم , و من بعض اتباع المذاهب الصوفية و القبوريين و اذا دُعوا الى اتباع الكتاب و السنة و نبذ ما هم عليه مما يخالفهما , احتجوا بمذاهبهم و مشائخهم و آبائهم و أجدادهم .
4- التشبه بالكفار :
و من أشد ما يوقع في البدع كما في حديث أبو واقد الليثي قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه و سلم - الى حُنين و نحن حدثاء عهد بكفر , و للمشكرين سدرة يعكفون عندها و ينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فقال رسول الله - صلى الله عليه و سلم - (( الله أكبر , إنها السنن ! قلتم - و الذي نفسي بيده - كما قالت بنو اسرائيل لموسى : (( اجعل لنا إلهاً كما لهم ءالهةٌ قال إنكم قومٌ تجهلون )) [ الاعراف ك 138] لتركبن سنن من كان قلبكم )) [ رواه الترمذي و صححه ]
ففي هذا الحديث : أن التشبه بالكفار هو الذي حمل بني اسرائيل ان يطلبوا هذا الطلب القبيح ’ و هو أن يجعل لهم آلهة يعبدوناه , و هو الذي حمل بعض اصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أن سألوه أن يجعل لهم شجرة يتبركون بها من دون الله , و هذا نفس الواقع اليوم , فإن غالب الناس من المسلمين قلدوا الكفار في عمل البدع و الشركيات , كأعياد الموالد و اقامة الايام و الاسابيع لأعمال مخصصة و الاحتفال بالمناسبات الدينية و الذكريات, و اقامة التامثيل , و النصب التذكارية , و إقامة المآتم و بدع الجنائز , و البناء على القبور , و غير ذلك .
___________________________________________-
* منقول من كتاب التوحيد للشيخ العلامة صالح الفوزان - حفظه الله -
(1) رواه ابو داود و الترمذي وقال : حديث حسن صحيح .