قال العلامة السعدي - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى :
( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ .
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ
فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ
ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ .
سَاءَ مَثَلا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ .
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ )
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:
( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا ) أي: علمناه كتاب اللّه، فصار العالم الكبير والحبر النحرير
( فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ ) أي: انسلخ من الاتصاف الحقيقي بالعلم بآيات اللّه
فإن العلم بذلك، يصير صاحبه متصفا بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال
ويرقى إلى أعلى الدرجات وأرفع المقامات
فترك هذا كتاب اللّه وراء ظهره، ونبذ الأخلاق التي يأمر بها الكتاب، وخلعها كما يخلع اللباس
فلما انسلخ منها أتبعه الشيطان، أي: تسلط عليه حين خرج من الحصن الحصين، وصار إلى أسفل سافلين فأزه إلى المعاصي أزا
( فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ) بعد أن كان من الراشدين المرشدين
وهذا لأن اللّه تعالى خذله ووكله إلى نفسه
فلهذا قال تعالى: ( وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ) بأن نوفقه للعمل بها، فيرتفع في الدنيا والآخرة، فيتحصن من أعدائه
( وَلَكِنَّهُ ) فعل ما يقتضي الخذلان، فَأَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ، أي: إلى الشهوات السفلية، والمقاصد الدنيوية
( وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ) وترك طاعة مولاه
( فَمَثَلُهُ ) في شدة حرصه على الدنيا وانقطاع قلبه إليها
( كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ) أي: لا يزال لاهثا في كل حال
وهذا لا يزال حريصا، حرصا قاطعا قلبه، لا يسد فاقته شيء من الدنيا
( ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا )
بعد أن ساقها اللّه إليهم، فلم ينقادوا لها
بل كذبوا بها وردوها، لهوانهم على اللّه، واتباعهم لأهوائهم، بغير هدى من اللّه
( فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) في ضرب الأمثال، وفي العبر والآيات
فإذا تفكروا علموا، وإذا علموا عملوا
( سَاءَ مَثَلا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ )
أي: ساء وقبح، مثل من كذب بآيات اللّه، وظلم نفسه بأنواع المعاصي، فإن مثلهم مثل السوء
وهذا الذي آتاه اللّه آياته، يحتمل أن المراد به شخص معين، قد كان منه ما ذكره اللّه، فقص اللّه قصته تنبيها للعباد
، وأنه شامل لكل من آتاه اللّه آياته فانسلخ منها
وفي هذه الآيات
الترغيب في العمل بالعلم، وأن ذلك رفعة من اللّه لصاحبه، وعصمة من الشيطان
والترهيب من عدم العمل به، وأنه نزول إلى أسفل سافلين، وتسليط للشيطان عليه
وفيه أن اتباع الهوى، وإخلاد العبد إلى الشهوات، يكون سببا للخذلان
ثم قال تعالى مبينا أنه المنفرد بالهداية والإضلال:
( مَنْ يَهْدِ اللَّهُ ) بأن يوفقه للخيرات، ويعصمه من المكروهات، ويعلمه ما لم يكن يعلم
( فَهُوَ الْمُهْتَدِي ) حقا لأنه آثر هدايته تعالى
( وَمَنْ يُضْلِلْ ) فيخذله ولا يوفقه للخير ( فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) لأنفسهم وأهليهم يوم القيامة
ألا ذلك هو الخسران المبين
يقال أنه كان من علماء بني إسرائيل وكان مجاب الدعوة يقدمونه
في الشدائد بعثه نبي الله موسى عليه السلام إلى ملك مدين يدعوه
إلى الله فأقطعه وأعطاه فتبع دينه وترك دين موسى عليه السلام .
وقال سفيان بن عيينة عن حصين عن عمران بن الحارث
عن ابن عباس هو بلعم بن باعوراء وكذا قال مجاهد وعكرمة
وقال ابن جرير : حدثني الحارث حدثنا عبد العزيز حدثنا إسرائيل
عن مغيرة عن مجاهد عن ابن عباس قال هو بلعام
فأقول ماأهون الخلق على الله إذا عصوه وتركوا دينه
(ومن يهن الله فماله من مكرم )
يقال أنه أنسلخ من الدين كما تنسلخ الحية من جلدها
فهذا القصص في القرآن الكريم للعبرة والاتعاظ
اللهم إنا نسألك الثبات حتى الممات
ربنا لاتزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب
منقول بتصرف